بعد أن نجحت بيعة العقبة الثانية، وأصبح الأنصار يمثلون عددًا لا بأس به في المدينة المنورة، وَقبِلوا أن يستقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يحموه مما يحمون منه نساءهم و أبناءهم وأموالهم، بعد كل هذه الأمور العظيمة والتي حدثت في فترة وجيزة جدًا، جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأذن له بفتح باب الهجرة لأصحابه إلى المدينة المنورة،
كل من يستطيع أن يهاجر فليهاجر، بل يجب أن يهاجر...
الضعفاء والأقوياء...
الفقراء والأغنياء...
الرجال والنساء...
الأحرار والعبيد...
الكل يهاجر إلى المدينة...
هناك مشروع ضخم سيُبْنى على أرض المدينة، مشروع يحتاج إلى كل طاقات المسلمين، هناك مشروع إقامة أمة إسلامية، لا يُسمح لمسلم بالقعود عن المشاركة في بناء هذا الصرح العظيم، انظر إلى الآيات تتحدث عن الهجرة:
[إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا(97)إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا(98)فَأُولَئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا(99)وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا] {النساء:97 :100} .
لم تكن الهجرة أمرًا سهلًا ميسورًا، ولم تكن كذلك ترك بلد ما إلى بلد آخر ظروفه أفضل، وأمواله أكثر، ليست عقد عمل بأجر أعلى، الهجرة كانت تعني ترك الديار، وترك الأموال، وترك الأعمال، وترك الذكريات، الهجرة كانت ذهابًا للمجهول، لحياة جديدة، لا شك أنها ستكون شاقة، وشاقة جدًا، الهجرة كانت تعني الاستعداد لحرب هائلة، حرب شاملة، ضد كل المشركين في جزيرة العرب، بل ضد كل العالمين، الحرب التي صورها الصحابي الجليل العباس بن عبادة الأنصاري على أنها الاستعدادُ لحرب الأحمر والأسود من الناس.
هذه هي الهجرة، ليست هروبًا ولا فرارًا، بل كانت استعدادًا ليوم عظيم، أو لأيام عظيمة؛ لذلك عظّمَ الله من أجر المهاجرين:
[وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيم] {الحج:58، 59} .
صدر الأمر النبوي لجميع المسلمين القادرين علي الهجرة أن يهاجروا، لكن لم يبدأ هو صلى الله عليه وسلم في الهجرة إلا بعد أن هاجر الجميع إلي المدينة، لم يكن من همِّه صلي الله عليه وسلم أن ينجو بنفسه، وأن يُؤَمِّنَ حاله، بل كان كل همه صلى الله عليه وسلم أن يطمئن على حال المسلمين المهاجرين، كان صلى الله عليه وسلم يتصرف كالرُّبَّان الذي لا يخرج من سفينته إلا بعد اطمئنانه على أن كل الركاب في أمان.
القيادة ليست نوعًا من الترف أو الرفاهية، القيادة مسئولية، القيادة تضحية، القيادة أمانة