لم تكن المدينة المنورة في يوم من الأيام مركزاً صناعياً مهماً، ولكنها عرفت منذ القدم صناعات أولية تسد الحاجة المحلية أو قسماً منها، وكانت تعتمد على المواد الأولية الموجودة في البيئة غالباً، فظهرت فيها عدد من الصناعات هي: أولاً: صناعات خشبية. مصدرها الأشجار في المزارع والغابة القريبة، أهمها صناعة أبواب البيوت والنوافذ وأخشاب المحاريث والقتود (الرحال التي توضع على الجمال) والأسرة والصناديق والكراسي والمناضد وغير ذلك من الأثاث المنزلي، وقد تقدمت هذه الصناعة ووصلت إلى مكانة عالية من الزخرفة ظهرت في أبواب بيوت الأثرياء وسقوفها، وبعض أثاثهم، وعندما جلي بنو النضير عن المدينة حمل بعضهم الأبواب وأخشاب السقوف المزخرفة، مما يدل على قيمتها العالية ويلحق بهذه الصناعة صناعة السلال والحصر.
ثانياً: صناعات معدنية، وتعتمد على المعادن المجلوبة كالمساحي والفؤوس ورؤوس الرماح والسيوف والقدور والصحون، وغير ذلك من الأدوات المنزلية وبعض الأدوات المعدنية المستخدمة في الزراعة وتربية المواشي.
ثالثاً: صناعة الحلي والصياغة، وقد ازدهرت في يثرب منذ القديم وتزعم بعض الروايات ابن شعبة وكان نجاراً وحداداً ونقاشاً. وطبيعي أن يقتصر العمل في المدينة على الموالي والعبيد لانشغال أهل المدينة في الجهاد والفتوحات. ومع ازدهار الحياة المدنية في العهد الأموي كثرت المصانع وأسهمت في التقدم العمراني وقدمت عدداً من المصنوعات للقصور والبيوت الأخرى وكانت تسد قسماً من الحاجة المحلية فيما تتكفل القوافل التجارية بتأمين البقية اللازمة. وقد استمر الأمر على هذا الحال في أوائل العصر العباسي ولكنه بدأ يتغير مع تقلص العمران في المدينة وهجرة الناس منها ثم اضطراب الأمن داخل المدينة وعلى الطرقات المؤدية إليها وكسبت المصانع الصغيرة حركة المد والجزر في العمران وازدهار المدينة وتقلصت في العهود المتأخرة إلى درجة كبيرة. وفي بداية العصر الحديث نشطت الصناعات الصغيرة في المدينة وأدى وصول القطار إليها إلى نموها السريع، ولكن ليس بالقدر الذي نشطت فيه التجارة، فقد غطت السلع الواردة معظم احتياجات الناس ولم تتح الفرصة إنشاء صناعات مهمة بسبب مداهمة الحرب العالمية الأولى واضطراب الأحوال في المدينة وحصار الهاشميين الشهير لها. وبعد خروج العثمانيين بدأت المصانع تعود إلى المدينة شيئاً فشيئاً وببطء يواكب بطء التطور في سنوات الحكم الهاشمية الست ومنذ بداية العهد السعودي الحالي بدأ الحال يتغير فقد نشطت المصانع الصغيرة أول الأمر وانشأت مدرسة دار الأيتام قسماً خاصاً لتعليم طلابها الحرف وأقامت لهم ورشاً إنتاجية أسهمت في سد حاجة أهل المدينة من بعض المصنوعات زمن الحرب العالمية الثانية. ومع استتباب الأمن وبدء الازدهار في جوانب الحياة الأخرى بدأت الصناعة تتطور، ولا سيما صناعة التمور حيث أنشئت العديد من المصانع نظراً لكثرة النخيل بالمدينة وتعدد أنواع التمور.
انه كان في أحد أسواقها ثلاثمائة صائغ، وكان يقوم بهذه الصناعة فتيان يجلبهم أهل يثرب أو يشترونهم من تجار الرقيق، فقد كانت العرب تأنف العمل في الصناعة وتسمى من يعمل بها (القين) وعندما جاء اليهود إلى يثرب عملوا في صناعة الحلي والصياغة وعمل بعضهم في الحدادة والنحاسة. وبعض الصناعات المنزلية التي تقوم بها النساء كغزل الصوف وعمل البسط وبعض الثياب. وفي العهد النبوي ظلت الصناعة محدودة، وكان يعمل فيها اليهود والموالي وقليل من المسلمين، ويروى أن الصحابي خباب بن الأرت كان حداداً، وعندما خرج اليهود من المدينة لم يبق من دكاكين الصياغة إلا ما ندر وتراجعت صناعة الحدادة واشترى الناس حاجتهم من القوافل، لذلك عندما فتحت خيبر ووقع في الأسر ثلاثون حداداً استبقوهم لانقطاع بضاعتهم وخاصة صناعة أحد الموالي منبراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم من خشب الغابة ظل قائماً في المسجد النبوي سنوات طويلة وقد أدت الهجرة إلى المدينة إلى زيادة عدد البنائين والنجارين ليواكبوا حركة البناء المتزايدة. كما ازداد عدد الحرفيين الآخرين من الخياطين والخرازين والصباغين، وغيرهم ويروى أن الصحابي سلمان الفارسي كان يصنع الخوص ليأكل من كسب يده. ونشطت هذه الصناعات إلى حد ما في العهد الراشدي بسبب توافد السبي من الآفاق، وكان بعضهم يتفنن في عدد من المهن. وقد منع عمر غير المسلمين من دخول المدينة وابقى بعض الحرفيين لحاجة الناس إليهم، وكان منهم أبو لؤلؤة الفارسي مولى المغيرة.