بمجرد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من تبوك، جاء إليه بعض المنافقين يطلبون منه الصلاة في مسجد بنوه بالقرب من قباء، ولهذا المسجد قصة مهمة، وهو الذي عرف في التاريخ بمسجد الضرار، وكان المنافقون باتفاق مع أبي عامر الفاسق الذي مرت بنا قصته عند الحديث عن قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مهاجرًا، والذي كان يَدَّعي أنه على الحنيفية، فلما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة رفض الإسلام، وكره الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك المدينة إلى مكة، ثم فر من مكة عند فتحها إلى الشام، ومن الشام راسل المنافقين في المدينة المنورة للقيام بعمل يفسد على المسلمين حياتهم ويفرق صفهم.
وكانت الفكرة التي تبناها أبو عامر الفاسق هي بناء مسجد آخر إلى جوار قباء؛ ليجذب إليه مجموعة من المسلمين، فلا يذهبون للصلاة في المسجد النبوي، ولا في مسجد قباء، وبذلك تتشتت قوة المسلمين، بالإضافة إلى الأفكار الهدامة التي من الممكن أن تُبَث من خلال هذا المسجد.
وقد يعجب الإنسان من أن المنافقين يتجهون إلى بناء مسجد، لكن ما أكثر المساجد التي بناها المنافقون في التاريخ والواقع، وقد تكون مساجد عملاقة وواسعة وفخمة، ولكن لا تبني إلا لبث ما يريدون من أفكار تعارض الفهم الصحيح للإسلام، ومن ثم تكون هذه المساجد أخطر على المسلمين من الأسلحة الفتاكة، أو من الجيوش الغازية، وشبيه بالمساجد إنشاء المدارس العلمانية والتبشيرية، والجامعات التي يغلب عليها الانحراف، والقنوات الفضائية، والمحطات الإذاعية، والجرائد، والمجلات، والكتب، وكل ما يمكن أن يؤثر سلبًا على أفكار الناس عن طريق إثارة الشبهات، وتعميق الفتن في المجتمع.
والخطير أن القائمين على هذه الأعمال المضلة قد يسعون إلى إثبات شرعيتها بدعوة من يثق الناس بهم لافتتاحها، أو للعمل بها بصورة غير مؤثرة، بحيث تبقى الهيمنة، والإدارة، والقرار بين المنافقين الذين أسسوه.
وهذا عين ما فعله المنافقون في المدينة المنورة، فقد بنوا هذا المسجد، وحاولوا أن يضفوا عليه شرعية بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، ولكنهم جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في طريقه إلى تبوك، ولم يكن جاهزًا آنذاك للذهاب معهم، فقال لهم: إِنِّي عَلَى سَفَرٍ، وَحَالِ شُغْلٍ، فَلَوْ قَدِمْنَا لَأَتَيَّنَاكُمْ، وَصَلَّيْنَا مَعَكُمْ فِيهِ.