جاء موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من النبوة يحمل الخير كله.
خرج وفد يثرب للحج، وكان الوفد مكونًا من ثلاثمائة حاج وقيل خمسمائة، منهم خمسة وسبعون من المسلمين (ثلاثة وسبعون رجلًا وامرأتان) وجدير بالذكر أن معظم هؤلاء المسلمين لم يكونوا معروفين لغيرهم من المشركين، معنى ذلك أن دعوة مصعب بن عمير في يثرب، وإن كانت علنية في حماية أسعد بن زرارة لكن لم يكن كل من يؤمن يعلن إسلامه في هذه المرحلة؛ وذلك مراعاة لظروف المدينة التي يكثر بها المشركون في ذلك الوقت، ولوجود اليهود فيها؛ وذلك لضمان استمرار الدعوة إلى أقصى مدى، حتى تحين اللحظة المناسبة التي يعلن فيها المسلمون عن أنفسهم في وقت يستحيل فيه استئصالهم، والدليل على أن غالب المسلمين كانوا لا يعلنون إسلامهم هو أن زعيم هذا الوفد في الحجيج وهو عبد الله بن أبي بن سلول، والذي أصبح بعد ذلك رأس المنافقين لم يكن يدري عنهم شيئًا، ولما خاطبه أهل قريش بأن هناك مسلمين في وفده أقسم على غير ذلك، كان صادقًا في جهله بوجود المسلمين في وفده، بل صرح كعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه بذلك حيث قال وهو يصف أحداث بيعة العقبة الثانية: وكنا نكتم من معنا من قومنا من المشركين أمرنا. فانظر وتأمل إلى دقة وحذر واحتياط المسلمين وهم ليسوا بالعدد القليل.
وصل وفد يثرب إلى مكة، واستقروا بها، وأخذوا يرتبون إقامتهم هناك، وكانوا على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ بيعة العقبة الأولى في العام السابق، والتي اشتملت على أمور عقائدية ومطالب أخلاقية كالبعد عن الزنا والسرقة، فكانت كلها تكليفات فردية، ولم يكن فيها أية مطالب بالنصرة واستضافة الرسول صلى الله عليه وسلم، فضلا عن حمايته، والقتال في سبيل ذلك لو تطلب الأمر، وذلك مراعاة من النبي صلى الله عليه وسلم لقدرة الأنصار الاثني عشر المشاركين في البيعة الأولى، والتي مهما عظمت فهي محدودة، ولكن قبل أن نشاهد ماذا فعلوا في مكة نريد أن نقف على ثلاثة مواقف مهمة قام بها الأنصار رضي الله عنهم قبل أن يشاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم...