بعد التعذيب الشديد للمسلمين في أرض مكة وفي بيت الله الحرام، وبعد أن تفرغ الكفار لحرب المؤمنين، كان قد بدا واضحا أن النية هي الاستئصال، فماذا يحدث لو هلك المؤمنون؟! وماذا يحدث لو هلكت هذه العصابة، وتلك الطائفة الوحيدة التي تعبد الله حق العبادة على الأرض؟!
فكانت مسئولية ضخمة تقع على عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عاتق أتباعه، وهي الوصول بهذا الدين إلى أهل الأرض جميعا؛ مصداق قوله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ] {الأنبياء:107}، وكما يقول صلى الله عليه وسلم: إِنَّمَا بُعْثِتُ لَكُمْ خَاصَّةً وَلِلنَّاسِ عَامَّةً.
الوسائل المتاحة والتفكير في أمر الهجرة:
هنا وقد اشتد التعذيب بالمؤمنين في مكة وكاد المسلمون أن يستأصلوا بالكلية، يظهر حل عملي لإنقاذ الدعوة من الهلاك كنوع من الأخذ بالأسباب، فقد قام الرسول صلى الله عليه وسلم بتخطيط بشري لإنقاذ الدعوة ولإنقاذ المؤمنين...
كان من السهل الميسور أن ينقذ الله حبيبه وينقذ المؤمنين بكلمة كن، أو ينقذهم بمعجزة خارقة للعادة، لكن هذه ليست سنة الله عز وجل في التغيير، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمنا أن نأخذ بأسباب واقعية، هي في يده كبشر، وهي في أيدينا كبشر، فكر رسول الله صلى الله عليه سلم في وسيلة جديدة لمجابهة طغاة مكة، وتكون في ذات الوقت في مقدور المؤمنين في كل الظروف، ولم يكن في مقدور المؤمنين آنذاك أن يقاتلوا المشركين؛ فقد نهاهم الله عز وجل عن ذلك [وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ]{الحجر:94} إذن فلتكن الوسيلة الجديدة هي الهجرة، الهجرة من أرض مكة إلى أرض أخرى جديدة ليس فيها تعذيب أو إيذاء، ليس فيها استئصال للدعوة.
كانت هذه خطوة تكتيكية من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبقتها إشارات جاءت في القرآن الكريم في هذه الآونة، حيث نزل قوله تعالى:
[لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ]{الزُّمر:10}.
فأرض الله إذن واسعة، وأعظم قطعة في الأرض هي التي يعبد فيها الله عز وجل، لا تفضلها قطعة أخرى بأنهار أوأشجار، أو بأموال أو بأهل أو عشيرة، إنما الأرض الصالحة الطيبة هي الأرض التي يعبد فيها الله عز وجل، ومن ثم فكر المسلمون في ترك أشرف بقعة على الأرض (مكة) إلى غيرها؛ لأنهم لا يستطيعون أن يعبدوا الله عز وجل كما يريدون، فليكن إذن في غيرها، حيث الأهم أن يعبدوا الله عز وجل دون أن يفتنوا في دينهم.